اخر الأخبار

الجمعة، يوليو 24، 2009

الايجور من قوة تفرض الجزية على الصين إلى شعب مشرّد


فجأة اكتشف المجتمع الدولي ومن ورائه العالَمان الإسلامي والعربي، أن هناك شعبامنسيا يسمى "الأيجور". وأعاد القمع الوحشي الذي مارسته السلطات الصينية ضدهم في الأحداث الأخيرة، الى الأذهان الصورة القديمة للصين الشيوعية المستبدة، بعد أن توارت هذه الصورة السلبية بفضل المعجزة الاقتصادية الصينية.

قضية الأيجور ليست قضية حديثة، ولكنها قصة طويلة من الكفاح والصراع والقمع بين أمتين متجاورتين مختلفين، بين الصين الحضارة النهرية العريقة، وبين الشعوب التركية والمغولية التي اعتادت الإغارة على الصين الغنية في لحظات الضعف، بل استطاعت احتلال العملاق الصيني في بعض هذه اللحظات، ولكن سُنة التاريخ حسمت الصراع لصالح العملاق الصيني برغم شجاعة الشعوب البدوية التركية والمغولية.

ينتمي الأيجور إلى العرق التركي، ويطلق عليهم أحيانا "الأتراك الشرقيون"، بل إن تركيتهم- بالمفهوم العنصري- أكثر نقاء من "تركيا" الحديثة. وقد أسس الأيجور إمبراطورية عريقة سيطرت على أجزاء واسعة من وسط آسيا، ومنغوليا، وشمال الصين وجنوب روسيا الحالية، إلى ووصلت في قوتها إلى حد التدخل في الشؤون الداخلية الصينية.

حيث لجأ إليها الصينيون لدعمهم في مواجهة ثورة داخلية، ودفع الصينيون أتاوة أو جزية إلى الأيجوريين، كما تزوج خان الأيجوريين من ابنة إمبراطور الصين. وقد وصلت هذه الإمبراطورية إلى ذروة قوتها بدءا من عام 672 ميلادية وانهارت عام عام 841 م على أيدى أشقائهم الكرغيز لتنشطر بعدها إمبراطورية الأيجور إلى ثلاث دول.

وكان أول من اعتنق الإسلام من الأيجور هي دولة "القره خانيد" في عام 934 وكان من أشهر عواصمها كاشغر وسمرقند، وأسست هذه الدولة المساجد والمدارس الإسلامية واعتبرت نفسها حاجزا دفاعيا أمام الدولتين الأيجوريتين الأخريين غير المسلمتين. وفي عهدها بدأ الأدب التركي في النهوض، بعد أن حوّل الإسلامُ الأتراكَ الأيجورَ من أمة بدوية إلى أمه ساعية إلى الحصارة، مثلما فعل من قبل مع العرب والبربر والمجموعات التركية المختلفة.

وقد خضع الأيجور لحكم أولاد عمومتهم المغول بدءا من عام 1209، واكتمل اعتناق كل الأيجور في القرن الخامس عشر على يد خانات يرقند وهى دولة مغولية مسلمة.

وقد تشكلت هوية الأمة الأيجورية الحديثة تحت حكم دولة خانات الشقطاي التي كانت تعد دولة تركية مغولية، يعتنق أغلب سكانها الإسلام، ويتحدثون التركية الأيجورية وتسيطر على ماعرف باسم تركستان الشرقية أو أيجورستان. إضافة إلى سيطرتها على تركستان الغربية أو آسيا الوسطى التي تضم حاليا الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي.

وفي منتصف القرن الثامن عشر سيطرت إمبراطورية كينج التي أسسها البدو المنشوريين القادمين من شمال شرق الصين على تركستان الشرقية وضمتها إلى الصين. ويقال إن هذا الغزو تسبب في مقتل نحو نصف مليون شخص، ولقد ثار الأيجور 42 مرة على حكم إمبراطورية كينج، ونجحوا بالفعل عقب ثورة 1864 في تأسيس مملكة أيجورية مستقلة في كاشغر، أطلقوا عليها "مملكة المدن السبع".

واعترفت كل من الدولة العثمانية، وروسيا القيصرية وبريطانيا العظمى بالدولة الوليدة، إلا أن الصين تحت حكم إمبراطورية "كينج" سارعت بإرسال جيش كبير لإعادة السيطرة على تركستان الشرقية يحفزها الخوف من توسع روسيا القيصرية في الإقليم، وبدعم من بريطانيا التي قدمت للجيش الإمبراطوري قروضا عبر فروع بنوكها في هونج كونج (رغم أنها اعترفت بالمملكة الوليدة )، ألحقت تركستان الشرقية بالصين وأطلق عليها "الإقليم الجديد"، سينكيانج.

وفي عام 1920 وبتأثير البلاشفة الروس أصبحت القومية الأيجورية تشكل تهديدا للسيادة الصينية، ومثلما فعل الاستعمار في الدول العربية قد سعى الروس إلى تشجيع الفصل القومي التعسفي بين الأيجور الخاضعين للصين، والأوزبك الخاضعين للروس، كما شجعوا على التمييز والفرقة بين المتحدثين الأغلبية السنية ذات الثقافة التركية، وبين الأقليات الفارسية الشيعية رغم هيمنة الثقافة الأوزبكية على الجميع.

كل ذلك جرى في إطار تنافس ولعبة بين الأمم الكبرى، روسيا والصين وبريطانيا العظمى على حساب شعوب آسيا الوسطى، التي كانت كلها شعوبا تنتمى لأصل تركي واحد، وتتحدث لغات مشابهة جدا، وخضعت أغلب فترات التاريخ لحكم واحد. كما أن نمط معيشتها وثقافتها متشابه جدا، فضلا عن أنها كانت تجابه تحديات واحدة، ولكن مؤامرات الدول الكبرى انتهت بتفتيتها وإخضاعها لسيطرتها.(قارن ذلك بالتاريخ العربي).

وخضعت سنيكيانج أو تركستان الشرقية لأحد زعماء الحرب الجمهوريين في الصين (الكومانتنج) الذين أنهوا الحكم الإمبراطوري، حيث شجع هذا الزعيم على الفصل بين الثقافة الأيجورية والثقافات المجاورة في آسيا الوسطى. وقام الأيجوريين بهبّات متعددة ضد الحكم الصيني، أثناء سيطرة "الكومنتانج. وأقاموا جمهوريتين خلال الثلاثينيات والأربعينيات تحت اسم جمهورية تركستان الشرقية. وذلك بدعم من الزعيم السوفيتي الشهير جوزيف ستالين، فيما كانت الدولة الصينية منشغلة في التصدي للغزو الياباني، ولم تعترف قط بهاتين الجمهوريتين.

وبعد هزيمة القوميين الصينيين في الحرب الأهلية في عام 1949 لصالح الشيوعيين، وافق قادة جمهورية تركستان الشرقية على التفاوض مع الشيوعيين الماويين لتأسيس تحالف أو رابطة كونفيدرالية بين الصين وبين جمهورية تركستان الشرقية، على أساس القومية الأيجورية، وعلى أساس أن هناك حكما سوفيتيا في الإقليم، ولكن الطائرة التي تحمل قادة جمهورية تركستان الشرقية قتلوا في حادث طائرة وهو متوجهون إلى بكين للتفاوض جول المعاهد.

وقد نُظر إلى الحادث بأنه مؤامرة من قبل الماويين لمنع قيام علاقة متكافئة مع بكين، وسرعان ما أعقب الحادث غزو من قبل الجيش الصيني مكتسحا بقايا القوات المؤيدة للكومانتنج بالإقليم، وكذلك المجموعات الإثنية المعادية لسيطرة قومية "الهان" الرئيسية في الصين.

ثم استسلمت بقايا جمهورية تركستان الشرقية، ووافق قائدها على تحويلها إلى منطقة للحكم الذاتي تحت الاسم الصيني سينيكيانج، وأصبح هذا القائد هو المسؤول الأول في الحزب الشيوعي الصيني في المنطقة، بينما هاجر أغلب قادة الحركة القومية الأيجورية إلى تركيا والغرب، لينتهى الحلم الأيجوري، ولو إلى حين. وتم حظر اسم تركستان الشرقية، واعتبر علمها علما غير شرعي.

وقد أعقب سيطرة الصين على تركستان الشرقية سياسة ممنهجة لتهجير أفراد من قومية الهان المهيمنة على الصين إلى ذلك الإقليم، مما أدى إلى تزايد نسبتهم من 6 % عام 1949 إلى نحو 40 % عام 2000، مقابل 45 % للأيجور، أي أن تعداد الأيجور أصبح أقل من النصف في بلادهم.

واعتمدت الصين، مثلها مثل كل مستعمِر، على تأسيس مستوطنات شبه عسكرية في المناطق الغنية بالمعادن. وبالطبع فإن سياسة الاستيطان القديمة تعتبر أكبر أسباب التوتر، فبرغم أن الأيجور يتمتعون بقدر من الحقوق الدينية والثقافية، إلا أن التوتر الناجم عن الاحتكاك بين المستوطنين الصينيين، وبين السكان الأصليين كان السبب الرئيسي في اندلاع الأحداث الأخيرة.

وتبدو أزمة الأيجور أزمة غير قابلة للحل، برغم الاهتمام الأخير الذي أبدته وسائل الإعلام الدولية مؤخرا بهم. فالأيجور جزء من أكبر دولة في العالم، وهى عملاق صاعد يتقدم ليحتل مكانة كأكبر قوة اقتصادية وسياسية في العالم. وبالتالي أقصي ما يمكن أن يقدمه الغرب للأيجوريين أن يستخدمهم كأداة لإزعاج ومشاكسة العملاق الصيني للضغط عليه، وتشويه صورته والوقيعة بينه وبين العالم الإسلامي.

لكن يستحيل عمليا على الأيجور الحصول على الاستقلال في غفلة من الزمن، مثلما حدث مع الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفييتي. فعلى عكس الاتحاد السوفييتي، فإن الصين دولة شديدة المركزية برغم ضخامتها. ويشكل عرق "الهان" أكثر من نسبة 90 % من سكانها، مما يجعل التهديد الذي تشكله الأقليات محدودا بصفة عامة، ويمكن القضاء عليه بل وسحقه بسهولة، عكس الاتحاد السوفييتي الذي كان نسبة الروس فيه تدور حول النصف فقط، وبالتالي كانت الأقليات تشكل نسبة كبيرة تمثل ضغطا على الدولة السوفييتية، وتحتاج إلى قدر كبير من الجهد والقمع لدرئها عن الانفصال.

أما العملاق البشري الصيني الذي يزيد عدد سكانه عن مليار و300 مليون نسمة، فهو يستطيع إذا تدهورت الأحوال أن يجند جيشا يعادل في تعداده إجمالي عدد الأيجور البالغ عددهم نحو ثمانية ملايين ونصف المليون نسمة. كما أن الأزمة أعادت الخطاب الصيني الرسمي الى ماضيه الدموي، إذ لم يتورع المسؤولون الصينيون عن توعد مثيري الشغب، ولم يأبهوا بصورة بلادهم أمام الرأي الغربي، أو احتجاجات منظمات حقوق الإنسان، أو مظاهرات تركيا اليتيمة.

كما أن الافتراض القائل بأن الصين يمكن أن ترتدع عن سحق أية هبة للأيجوريين تحسبا لعدم إغضاب الغرب والعالم الإسلامي، أمر غير حقيقي. فالصين بشعورها القومى الحاد لن تجامل أحدا على حساب وحدتها، كما أن هناك حدودا لقدرة الغرب على الضغط على الصين، فهي ليست إيران، أو كوبا، أو كوريا الشمالية.

كما أن الصين قادرة على تسخين ملفات عديدة، مثل الملف النووي الإيراني، أو الكوري. الأهم أن الغرب لا يمتلك الإرادة لممارسة أي ضغط على الصين، خصوصا وأن العنصرية الغربية تظهر في هذه المواقف. فلو أن الأقلية التي تتعرض للاضطهاد هي أقلية مسيحية لاختلف الأمر، وهو ما ظهر في ردود الفعل المتفاوتة للغرب حيال الممارسات السوفييتية القمعية في أواخر العهد الإمبراطوري المنحل، إزاء جمهوريات البلطيق وأذربيجان. حيث تجاهل الغرب القمع السوفييتي للقمع الوحشي للحركة الوطنية الأذربيجانية في عهد ميخائيل جورباتشوف، وأدان الممارسات السوفييتية تجاه جمهوريات البلطيق برغم أنها كانت أقل حدة بكثير.

وقد أخفقت الضغوط الغربية في تحقيق مكاسب جدية للتيبت برغم الشغف الغربي بهذه الحضارة، الذي يفوق بكثير التعاطف المحدود الذي أثارته الأزمة الأخيرة في تركستان الشرقية.

أما العالم الإسلامي والعربي، فإنه مشغول بصراعاته وأزماته الداخلية، وهو في أمس الحاجة لرضا الصين عنه والتي تساهم أحيانا في تنفيس الضغط الغربي عليه، ولم يبق للأيجور سوى شقيقتهم الكبرى تركيا المزهوة بديمقراطيتها وعلمانيتها وإسلاميتها. فهي تبدو أقل دول العالم الإسلامي حاجة الى الصين باقتصادها المنفتح على العالم، وعلاقتها المتوازنة والقوية بالغرب وبروسيا. فهي لا تحتاج سلاحا من بكين، ولا تجري وراء فيتو صيني يحول دون تقديم حكامها إلى المحكمة الجنائية الدولية، ولا تريد دعما لقرار بوقف الاستيطان في الضفة الغربية.

لذا ليس من الغريب أن تكون تركيا هى الأعلي صوتا في الدفاع عن أشقائها الأيجور، يحفزها موقف سياسي قوي، وروح قومية راسخة ترى في نفسها زعيمة للعالم التركي، وروح دينية باسقة تقدم نفسها كرائدة للإسلام المعتدل.

ولا يبقى للأيجور سوى أن ينفضوا حلم الاستقلال، وأن يعملوا على تحقيق تفاهم تاريخي مع الصين، يتضمن تعزيز الحكم الذاتي، والحريات الثقافية والدينية، والتأكيد على ولائهم الكامل للصين الموحدة والعمل على معالجة ملف المهاجرين الهان من خلال التعايش، والمراهنة على عنصر الزمن الكفيل- في حال حياد السلطات المركزية- بإعادة الأغلبية العددية للإقليم الى صالح الأيجور في ظل استثناء الأقليات من قيد الطفل الواحد، وفي ظل طبيعة المجتمعات الإسلامية التي تميل أكثر من غيرها لزيادة السكان.

وكل ذلك يتطلب وجود تقدم عام في الصين فيما يتعلق بملف الديمقراطية وحقوق الإنسان بشكل متدرج ومرن، لا يهدد وحدة الدولة الصينية ويتواكب مع إنجازاتها الاقتصادية والحضارية المذهلة.

وعلى الأيجور أن ينظروا الى نصف الكوب الممتلئ، فإذا أصبحوا مواطنين صينيين كاملي الحقوق، فإنهم سيكونون على الأقل جزءا من مواطني القوى العظمى القادمة (لا محالة)، وسيصبح الأيجوري المسلم سائحا من الدرجة الأولى، يلقى الاحترام في كل المطارات بما فيها المطارات العربية التي رفضت أن تستقبله لاجئا مضطهَدا.

السياسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق